كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإنّ هذا يدل على أنّ الصدقة لا تعطى إلا للفقراء.
وقال الشافعية: إن استدان لنفسه لم يعط إلا مع الفقر، وإن استدان لإصلاح ذات البين أعطي من سهم الغارمين، ولو كان غنيا، لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل اللّه، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدّق على المسكين، فأهدى المسكين إليه».
وقال قوم: إذا كان الغريم قد استدان في معصية فإنه لا يدخل في عموم الآية، لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، ومثل هذا لا يؤمن إذا أدّي عنه دينه أن يستدين غيره، فيصرفه في الفساد.
الصنف السابع: ما أشار اللّه إليه بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم اللّه: يصرف سهم سبيل اللّه المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان، وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا.
وقال أحمد رحمه اللّه في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج.
وروي مثله عن ابن عمر.
وحجة الأئمة الثلاثة المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل اللّه تعالى هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك، وأن حديث أبي سعيد السابق في صنف الغارمين يدل على ذلك، فإنه ذكر ممن تحل له الصدقة الغازي، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل اللّه تعالى.
واستدل لما روى عن أحمد بحديث أبي داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة اللّه، وإنها سألتني الحج معك.
قالت: أحجّني مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فقلت: ما عندي ما أحجك عليه.
قالت: أحجني على جملك فلان.
فقلت: ذلك حبيسي في سبيل اللّه.
فقال: «أما إنّك لو أحججتها عليه كان في سبيل اللّه».
وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل اللّه ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه.
وفسر بعض الحنفية سبيل اللّه بطلب العلم، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى، وبناء القناطر، والحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عام في الكل. وأيّا ما كان الأمر فقد اشترط الحنفية للصرف في سبيل اللّه الفقر.
وقال الشافعية يعطي الغازي مع الفقر والغنى، للخبر الذي ذكرناه في الغارم، ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه.
الصنف الثامن: ابن السبيل ابن السبيل الذي يعطى من الصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. قال العلماء: وإنما يعطى ابن السبيل بشرط حاجته في سفره، ولا يضر غناه في غير سفره، فيعطى ما يبلغ به مقصده. فإن كان سفره في طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة أعطي بلا خلاف.
وإن كان سفره في معصية لم يعط بلا خلاف، لأنّ ذلك إعانة على المعصية.
وإن كان سفره في مباح كرياضة فللشافعية فيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى، لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
الثاني: يعطى، لأنّ ما جعل رفقا بالمسافر في طاعة جعل رفقا بالمسافر في مباح كالقصر والفطر.
مسألة:
هذه مسألة تشترك فيها الأصناف السابقة كلها: قال الرافعي نقلا عن أصحاب الشافعي: من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه، وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف، ولم يخرّجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه، مع أن التهمة هاهنا مجالا أيضا للفرق بأن الزكاة مبنية على الرّفق والمساهلة، وليس فيها إضرار بمعين، بخلاف قضاء القاضي.
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية.
فالخفي: الفقر والمسكنة. فلا يطالب مدعيه ببينة لعسرها، فلو عرف له مال وادعى هلاكه لم يقبل إلا ببينة.
وأما الجلي فضربان:
أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين، ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا استردّ منهما ما أخذا. وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال السرخسي: ثلاثة أيام، قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوها.
الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا الضرب يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب، والغارم، وأما المؤلف قلبه فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام قبل قوله، لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي طولب بالبينة.
قال الرافعي: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة. اهـ من مجموع النووي بتصرف.
وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} بعد قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ} إلخ جار مجرى قوله فرض اللّه الصدقات لهؤلاء فريضة، فهو زجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم لإخراج الزكاة عن هذه الأصناف {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم {حَكِيمٌ} لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد.
قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)}
ذكر في تفسير قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر حين أراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلي على عبد اللّه بن أبي.
ونسوق الحديث بتمامه هنا لأنّ فيه ذكر السبب في نزول هذه الآية:
قال ابن عمر رضي اللّه عنهما: لما توفي عبد اللّه بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلّي عليه، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللّه أتصلّي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلّي عليه! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنما خيّرني اللّه فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق. قال: فصلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية».
وفي رواية له عن ابن عباس عن عمر أنه قال: فلما أكثرت عليه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أخّر عني يا عمر، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» الحديث.
والظاهر أنّ عمر فهم النهي الذي أشار إليه بقوله: تصلي عليه وقد نهاك ربك من قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، وليس كما قال بعضهم أنه فهم النهي من قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] إلخ، إذ لو كان عمر يشير إلى هذه الآية لما طابق الجواب السؤال.
وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أراد أن يصلّي على عبد اللّه بن أبي، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: {وَلا تُصَلِّ} الآية. فرواية أبي يعلى تدل على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يصل على عبد اللّه بن أبي.
ولكنّ أكثر الروايات تدل على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى عليه فكان في ذلك تعارض.
فبعض العلماء يقول: رواية أبي يعلى لا تعارض رواية البخاري، فالمعوّل عليه رواية البخاري، وبعضهم جمع بين الروايتين حسبما أمكن فقال: المراد في الصلاة في رواية عمر وابنه الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، أو أنّ المراد بقوله: «فصلّى عليه» أنه دعا الناس للصلاة عليه، وتوجّه بهم إلى مكان الميت، فلما همّ بالصلاة عليه صلاة الجنازة أخذ جبريل بثوبه إلخ.
والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الجنازة المعروفة، وفيه دعاء للميت واستغفار واستشفاع.
وماتَ ماض بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي، ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت.
و{أَبَدًا} ظرف متعلق بالنهي.
ومعنى {وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه، أو لزيارته.
ومعنى القبر على هذا مدفن الميت. وجوّز بعضهم أن يراد بالقبر: الدفن ويكون المعنى: لا تتول دفنه.
{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} تعليل للنهي عن الصلاة والقيام على القبر فإنّ الصلاة على الميت والقيام على قبره احتفال بالميت، وإكرام له واحترام، وليس الكافر من أهل الاحترام والتعظيم.
{وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} معناه أنّهم مع كفرهم متمردون في دينهم خارجون عن الحد فيه.
والظاهر أنّ هذه الآية لا تدل على وجوب الصلاة على موتى المسلمين، بل غاية ما تفيده أنّ الصلاة على الميت مشروعة، والوجوب مستفاد من الأحاديث الصحيحة، كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «صلوا على صاحبكم».
وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك إلا ما حكي عن بعض المالكية أنّه جعلها سنة.
وقد دلت الآية على معان:
منها حظر الصلاة على موتى الكفار، وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم، وكذلك تولي دفنهم، وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائزهم.
ومنها مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفعله. وقد قام على قبر حتى دفن الميت، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وفي صحيح مسلم أنّ عمرو بن العاص رضي اللّه عنه قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسّم لحمها حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي.
قال الجصاص: من الناس من جعل قوله تعالى: {وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} قيام الصلاة.
قال: وهذا خطأ من التأويل، لأنه تعالى قال: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على الميت، فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه. اهـ.
قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
{وَتُزَكِّيهِمْ}: تنمي حسناتهم وأموالهم.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: ادع لهم، واستغفر لهم.
{سَكَنٌ} من معاني السكن والسكون، وما تسكن النفس إليه وتطمئن من الأهل والمال والوطن. وكلّ من هذين المعنيين يصحّ أن يكون مرادا.
سبب النزول:
روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم لمّا تاب اللّه عليهم جاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول اللّه! هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت هذه الآية، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أموالهم الثلث.
قال الحسن: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم.
وقد راع كثير من المفسرين سبب النزول، فجعل الضمير في قوله تعالى: {خُذْ} خاصا بهذه الحادثة، وتكون الصدقة المأخوذة منهم صدقة تطوع معتبرة في كمال توبتهم، وجارية في حقهم مجرى الكفارة، وليس المراد بها الزكاة المفروضة، لأنها كانت واجبة من قبل.